فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ}
قرأ أبو عمرو والكسائي {ومن قِبله} بكسر القاف وفتح الباء؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله وأبيّ {ومن معهُ}.
وقرأ أبو موسى الأشعرِيّ {ومن تلقاءه}.
الباقون {قبْله} بفتح القاف وسكون الباء؛ أي ومن تقدّمه من القرون الخالية والأمم الماضية.
{والمؤتفكات} أي أهل قرى لوط.
وقراءة العامة بالألف.
وقرأ الحسن والجحْدرِيّ {والْمُؤْتفِكة} على التوحيد.
قال قتادة: إنما سُمِّيت قُرى قوم لوط {مؤتفكات} لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت.
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القُرظِيّ قال: خمس قرْيات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم؛ وهي القرية العظمى.
{بِالْخاطِئةِ} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر.
وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها.
وقال الجرجانِيّ: أي بالخطأ العظيم؛ فالخاطئة مصدر.
قوله تعالى: {فعصوْاْ رسُول ربِّهِمْ} قال الكلْبيّ: هو موسى.
وقيل: هو لوط لأنه أقرب.
وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام؛ كما قال تعالى: {فقولا إِنّا رسُولُ ربِّ العالمين} [الشعراء: 16] وقيل: {رسول} بمعنى رسالة.
وقد يعبّر عن الرسالة بالرسول؛ قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بُحْت عندهم ** بِسِرٍّ ولا أرسلتهم برسول

{فأخذهُمْ أخْذة رّابِية} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم.
ومنه الرّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى.
يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف.
وقال مجاهد: شديدة.
كأنه أراد زائدة في الشدّة.
قوله تعالى: {إِنّا لمّا طغا الماء} أي ارتفع وعلا.
وقال عليّ رضي الله عنه: طغى على خُزّانه من الملائكة غضبا لربّه فلم يقدروا على حبسه.
قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا.
وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خُزّانه فكثر عليهم فلم يدْرُوا كم خرج.
وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم.
وقد مضى هذا مرفوعا أوّل السورة.
والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلّ بهم من العذاب: زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول.
ثم منّ عليهم بأن جعلهم ذُرِّية من نجا من الغرق بقوله: {حملْناكُمْ} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم.
{فِي الجارية} أي في السفن الجارية.
والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكلّ من على وجه الأرض من نسل أولئك.
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة} يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.
جعلها الله تذكرة وعِظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم؛ في قول قتادة.
قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجُودِيّ.
والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حلّ بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء.
وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ} أي تحفظها وتسمعها أُذُنٌ حافظة لما جاء من عند الله.
والسفينة لا توصف بهذا.
قال الزجاج: ويقال وعيْتُ كذا أي حفِظته في نفسي، أعِيه وعْيا.
ووعيْتُ العلم، ووعيْت ما قلت؛ كلُّه بمعنى.
وأوعيت المتاع في الوِعاء.
قال الزجاج: يقال لكل ما حفِظته في غير نفسك: (أوعيته) بالألف، ولِما حفِظته في نفسك (وعيته) بغير ألف.
وقرأ طلحة وحُميد والأعرج {وتعْيها} بإسكان العين؛ تشبيها بقوله: {أرْنا} واختلف فيها عن عاصم وابن كثِير.
الباقون بكسر العين؛ ونظير قوله تعالى: {وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ}، {إِنّ فِي ذلِك لذكرى لِمن كان لهُ قلْبٌ} [ق: 37] وقال قتادة: الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجلّ.
وروي مكحول: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: سألت ربِّي أن يجعلها أذُن عليٍّ». قال مكحول: فكان عليّ رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قطّ فنسيته إلا وحفظته.
ذكره الماوردِيّ، وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت {وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سألت ربِّي أن يجعلها أذنك يا عليّ» قال عليّ: فوالله ما نسيت شيئا بعدُ، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برْزة الأسْلمِيّ: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ: «يا عليّ إن الله أمرني أن أُذْنيك ولا أقصِيك وأن أعلمك وأن تعِي وحقٌّ على الله أن تعِي». اهـ.

.قال الألوسي:

{وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ}
ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان {ومن قبله} بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من اتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود {ومن معه} {والمؤتفكات} أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرأ الحسن هنا {والمؤتفكة} على الإفراد {بِالْخاطِئةِ} أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطا العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة.
{فعصوْاْ رسُول ربّهِمْ} أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لاقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضى لانقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة {فأخذهُمْ} أي الله عز وجل {أخْذة رّابِية} أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد.
{إِنّا لمّا طغا الماء} جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحي إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة {حملناكم} أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة أبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد {فِى الجارية} في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة في فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز وجل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه:
رية في بطن جارية

{لِنجْعلها} أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لكُمْ تذْكِرة} عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته {وتعِيها} أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء {أُذُنٌ واعية} أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى وفي الخبر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه أني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى» وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وإن من هذا شأنه مع قلته بنسيب لنجاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هرون وخارجة عنه وقنبل بخلاف عنه {وتعيها} بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء الكسرة وروى عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروى عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي {وتعيها} بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة {من أوسط ما تطعمون أهاليكم} [المائدة: 89] بسكون الياء وقرأ نافع أذن بإسكان الذال للتخفيف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وجاء فِرْعوْنُ ومنْ قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9)}
عطف على جملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4].
وقد جُمع في الذكر هنا عدةُ أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالا وتصريحا، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكرا عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم، فحصل في الكلام احتباك.
والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو (مِنفطاح الثاني).
وإنما أسند الخِطْء إليه لأن موسى أرسل إليه ليُطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [النازعات: 17] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالا لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.
وشمل قوله: {ومن قبله} أمما كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
وقرأ الجمهور {ومن قبله} بفتح القاف وسكون الباء.
وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن كان من جهته، أي قومه وأتباعه.
و{المؤتفكات}: قُرى لوط الثلاثُ، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] وقال: {ولقد أتوا على القرية التي أُمْطِرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40].
ووصفت قرى قوم لوط بـ {المؤتفكات} جمع مؤتفكة اسم فاعل ائتفك مُطاوع أفكه، إذا قلبه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب، أي خسف بها قال تعالى: {جعلنا عاليها سافلها} [هود: 82].
والخاطئة: إمّا مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدرا قطع النظر عن المرة، كما تقدم في قوله: {الحاقة} [الحاقة: 1] فهو مصدر خطِئ، إذا أذنب.
والذنب: الخِطْء بكسر الخاء، وإِما اسم فاعل خطِئ وتأنيثه بتأويل: الفعلة ذات الخِطْء فهاؤه هاء تأنيث.
والتعريف فيه تعريف الجنس على كلا الوجهين، فالمعنى: جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب.
وفرع عنه تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخاطئة فقال: {فعصوا رسول ربّهم} وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9] في أنه تفريع بيان على المبيّن.
وضمير (عصوا) يجوز أن يرجع إلى {فرعون} باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور، وإما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير {عصوا} يكون المراد بـ {رسول ربّهم} موسى عليه السلام.
وتعريفه بالإِضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإِشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياه إلها لهم.
ويجُوز أن يرجع ضمير {عصوا} إلى {فرعون ومن قبله والمؤتفكات}.
و{رسول ربّهم} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء.
فإفراد {رسول} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظما من أن يقال: فعصوا رسُل ربّهم، لما في إفراد {رسول} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفاديا من تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان (37) {وقوم نوح لمّا كذّبوا الرُسل أغرقناهم}، وإنما كذبوا رسولا واحدا، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} وما بعده في سورة الشعراء (105)، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه.
والأخذ: مستعمل في الإِهلاك، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} في سورة الأنعام (44) وفي مواضع أخرى.
و{أخْذة} واحدة من الأخذ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق، كما قال تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى {فرعون ومن قبله والمؤتفكات} كان إفراد الأخذة كإفراد {رسول ربّهم} أي أخذنا كل أمة منهم أخذة.
والرابية: اسم فاعل من ربا يربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة، قلبت الواو ياء لوقوعها متحركة إثر كسرة.
واستعير الرُّبُوّ هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {وادعوا ثبورا كثيرا} [الفرقان: 14].
والمراد بالأخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.
{إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11)}
إِنّ قوله تعالى: {ومن قبله} [الحاقة: 9] لما شمل قوم نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حسّن اقتضاب التذكير بأخذهم لِما فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عِظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة، وهذا من قبيل الإِدماج.
وقد بُني على شهرة مُهلك قوم نوح اعتبارُه كالمذكور في الكلام فجعل شرطا ل {لمّا} في قوله: {إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية}، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان.
والطغيان: مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.
و{الجارية}: صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى: {وله الجواري المنشآت في البحر} [الرحمن: 24].
وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة.
وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين} الآية [المؤمنون: 27].
وذكر إحدى الحِكم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الأعصار ليكون لهم باعثا على الشكر، وعظة لهم من أسواء الكفر، وليخبر بها من علِمها قوما لم يعلموها فتعيها أسماعهم.
والمراد بـ {أذن}: آذان واعية.
وعموم النكرة في سياق الإِثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى: {ولْتنظُرْ نفسٌ ما قدّمتْ لِغدٍ} [الحشر: 18].
والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها أذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية. اهـ.